الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي للمباركفوري ***
الجزء الثالث 494- حدثنا محمودُ بن غَيْلاَن حدثنا وكيعٌ عن سفيان و أبو جَنابٍ يحيى بن أبي حَيّةَ عن عبدِ الله بن عيسى عن يحيى بن الحارثِ عن أبي الأشَعثِ الصّنْعَانيّ عن أَوْسِ بن أَوْسٍ قال: قالَ لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن اغْتَسَلَ يومَ الجُمَعَةِ وغَسّلَ وَبكّر وابتكَرَ وَدَنا واستمَعَ وأَنْصَتَ كانَ له بكلّ خُطْوةٍ يَخْطوها أَجرُ سَنَةٍ صيامُها وقيامُها". قال محمودٌ: قال وكيعٌ اغْتَسَلَ هو وغسّل امرأتَه. (قال): ويُرْوَى عن (عبد الله) بن المباركِ أنه قال في هذا الحديث: مَن غسّلَ واغْتَسَل، يعني غَسل رأسَهُ واغْتَسَل. (قال): وفي البابِ عن أبي بكرٍ وعِمْرانَ بنِ حُصَينٍ وسلمانَ وأبي ذَر وأبي سعيدٍ (وابن عمرَ) و (أبي أَيّوبَ). قال أبو عيسى: حديثُ أَوسٍ بنِ أَوْسٍ حديثٌ حسنٌ وأبو الأشَعثِ الصّنْعَانيّ اسمُه شُراحيلُ بن آدةَ. (وأبو جناب يحيى بن حَبِيبٍ القصّابُ) (الكوفي). قوله: (وأبو جناب) بجيم مفتوحة ونون خفيفة وآخره موحدة (يحيى بن أبي حية) بالحاء المهملة والتحتانية المشددة، قال في التقريب: ضعفوه لكثرة تدليسه، روي عن عبد الله بن عيسى وغيره وعنه وكيع والسفيانان وغيرهم. إعلم أنه قد وقع في النسخ الموجودة عندنا أبو جناب بالرفع فالظاهر أنه عطف على وكيع وحاصله أن محمود بن غيلان روى هذا الحديث عن وكيع وأبي جناب كليهما، فأما وكيع فرواه عن سفيان عن عبد الله بن عيسى وأما أبو جناب فرواه عن عبد الله بن عيسى من غير واسطة، وقد روى أحمد هذا الحديث في مسنده من طريق سفيان عن عبد الله بن عيسى (عن عبد الله بن عيسى) بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي ثقة (عن يحيى بن الحارث) الذماري القاري ثقة (عن أوس بن أوس) صحابي سكن دمشق. قوله: (من اغتسل وغسل) روى بالتشديد والتخفيف قيل أراد به غسل رأسه، وبقوله اغتسل غسل سائر بدنه، وقيل جامع زوجته فأوجب عليها الغسل فكأنه غسلها واغتسل، وقيل كرر ذلك للتأكيد. ويرجح التفسير الأول ما في رواية أبي داود في هذا الحديث بلفظ: من غسل رأسه واغتسل، وما في البخاري عن طاوس: قلت لابن عباس ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اغتسلوا واغسلوا رؤوسكم" الحديث (وبكر) بالتشديد على المشهور أي راح في أول الوقت (وابتكر) أي أدرك أول الخطبة ورجحه العراقي، وقيل كرره للتأكيد، وبه جزم ابن العربي. وقال الجزري في النهاية: بكر أتى الصلاة في أول وقتها، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه. وأما ابتكر فمعناه أدرك أول الخطبة، وأول كل شيء باكورته، وابتكر الرجل إذا أكل باكورة الفواكه، وقيل معنى اللفظتين واحد وإنما كرر للمبالغة والتوكيد كما قالوا أجاد مجد انتهى. وزاد أبو داود وغيره في رواياتهم: ومشى ولم يركب (ودنا) زاد أبو داود وغيره من الإمام (واستمع) أي الخطبة (وأنصت) تأكيد (بكل خطوة) بفتح الخاء وتضم بعد ما بين القدمين (صيامها وقيامها) بدل من سنة. قوله: (قال محمود) هو ابن غيلان شيخ الترمذي (قال وكيع اغتسل هو وغسل امرأته) قال الجزري في النهاية: ذهب كثير من الناس أن غسل أراد به المجامعة قبل الخروج إلى الصلاة لأن ذلك يجمع غض الطرف في الطريق، يقال غسل الرجل امرأته بالتشديد والتخفيف إذا جامعها وقد روى مخففاً وقيل أراد غسل غيره واغتسل هو لأنه إذا جامع زوجته، أحوجها إلى الغسل، وقيل هما بمعنى كرره للتأكيد. قوله: (وفي الباب عن أبي بكر وعمران بن حصين وسلمان وأبي ذر وأبي سعيد وابن عمر وأبي أيوب) أما حديث أبي بكر وعمران بن حصين فأخرجه الطبراني في الكبير والأوسط عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اغتسل يوم الجمعة كفرت له ذنوبه وخطاياه فإذا أخذ في المشي كتب له بكل خطوة عشرون حسنة فإذا انصرف من الصلاة أجيز بعمل مئتي سنة" وفي سنده الضحاك بن حمزة ضعفه ابن معين والنسائي وذكر ابن حبان في الثقات كذا في مجمع الزوائد. وأما حديث سلمان فأخرجه البخاري. وأما حديث أبي ذر فلينظر من أخرجه. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه أبو داود. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الطبراني في الأوسط وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن رواد وهو ضعيف كذا في مجمع الزوائد. وأما حديث أبي أيوب فأخرجه أحمد والطبراني في الكبير بلفظ: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحداً ثم أنصت حتى يصلي كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى". قال في مجمع الزوائد رجاله ثقات. قوله: (وحديث أوس بن أوس حديث حسن) قال المنذري في الترغيب بعد ذكره: رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن، والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهحما والحاكم وصححه انتهى. وفي المرقاة قال النووي إسناده جيد نقله ميرك. وقال بعض الأئمة لم نسمع في الشريعة حديثاً صحيحاً مشتملاً على مثل هذا الثواب انتهى. قوله: (اسمه شرحبيل بن آدة) وفي بعض النسخ شراحيل بن آدة، قال الحافظ في التقريب: شراحبيل بن آدة بالمد وتخفيف وتخفيف الدال أبو الأشعت الصنعاني، ويقال آدة جد أبيه وهو ابن شراحيل بن كليب ثقة من الثانية شهد فتح دمشق انتهى. وقال في تهذيب التهذيب: شراحبيل بن آدة ويقال شرحبيل بن كليب بن آدة، ويقال شراحيل بن كليب، ويقال شراحيل بن شراحيل ويقال شرحبيل ابن شرحبيل انتهى.
(باب في الوضوء يوم الجمعة) أي في الاكتفاء على الوضوء يوم الجمعة. 495- حدثنا أبو موسى محمّدُ بن المُثَنّى حدثنا سعيدُ بن سفيانَ الجَحْدَرِيّ حدثنا شعبةُ عن قتادةَ عن الحَسنِ عن سَمُرةَ بنِ جُنْدَبٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَن توضّأَ يومَ الجُمعةِ فَبِهَا وَنِعْمتْ. ومَن اغتسَلَ فالغُسْلُ أفضلُ". (قال): وفي البابِ عن أبي هريرةَ وعائشةَ وأنسٍ. قال أبو عيسى: حديثُ سَمُرَةَ (حديثٌ حسنٌ). (و) قد رواه بعضُ أصحابِ قتادةَ (عن قَتَادةَ) عن الحسنِ عن سَمُرَةَ (بن جندب). وَرَواهُ بعضُهم عن قتادةَ عن الحسنِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً. والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ مِن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ومَن بَعدَهمُ، اختاروا الغسلَ يومَ الجمعةِ ورأوْا أَن يجزئ الوضوءُ مِن الغسلِ (يومَ الجمعةِ). قال الشافعيّ ومما يدلّ على أَنّ أمْرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالغسلِ يومَ الجُمعةِ أنه على الإِختيارِ لا على الوجُوبِ: حديثُ عُمَرَ حيثُ قال لعثمانَ: "والوضوءُ" أيضاً. وقد علمتَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمرَ بالغُسلِ يومَ الجُمعَةِ" فلو عَلِمَا أنّ أَمرَه على الوجوبِ لا عَلَى الإِختيارِ لم يَتْركَ عمرُ عثمانَ حتى يَردّه ويقولَ له ارجعْ فاغْتَسِلْ. ولَمَا خَفِيَ على عثمانَ ذلك مع عِلْمِهِ، ولكن دَلّ (في) هذا الحديث أن الغسلَ يومَ الجُمعَةِ فيه فَضْلٌ من غيرِ وجوبٍ يجبُ على المرءِ في كذلك. 496- حدثنا هنادٌ، حدثنا أبو معاويةَ عن الأعمشِ عن أبي صالحٍ عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن توضّأَ فأحسَن الوضوءَ ثم أتَى الجُمُعَةَ فَدَنَا واستَمَعَ وأَنْصَتَ غُفِرَ له ما بَيْنَه وبين الجُمعَةِ وزيادةُ ثلاثة أيامٍ، ومَن مَسّ الَحَصى فقد لغا". قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. قوله: (عن الحسن عن سمرة بن جندب) ذكر النسائي أن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة. قال العراقي: وقد صح سماعه منه لغير حديث العقيقة، ولكن هذا الحديث لم يثبت سماعه منه لأنه رواه عنه بالعنعنة في سائر الطرق ولا يحتج به لكونه يدلس كذا في قوت المغتذي. قوله: (فبها ونعمت) قال العراقي: أي فبطهارة الوضوء حصل الواجب، والتاء في نعمت للتأنيث، قال أبو حاتم معناه ونعمت الخصلة هي أي الطهارة للصلاة. وقال الحافظ في التلخيص: حكى الأزهري أن قوله فبها ونعمت معناه فبالسنة أخذ ونعمت بالسنة. قاله الأصمعي: وحكاه الخطابي أيضاً وقال إنما ظهر تاء التأنيث لإضمار السنة، وقال غيره: ونعمت الخصلة، وقال أبو أحمد الشاذكي: ونعمت الرخصة، قال لأن السنة الغسل، وقال بعضهم: فبالفريضة أخذ ونعمت الفريضة انتهى ما في التلخيص (ومن اغتسل فالغسل أفضل)، هذا يدل على أن الغسل يوم الجمعة ليس بواجب بل يجوز الاكتفاء على الوضوء، وجه الدلالة أن قوله فالغسل أفضل يقتضي اشتراك الوضوء والغسل في أصل الفضل فيستلزم إجزاء الوضوء. قوله: (وفي الباب عن أبي هريرة وأنس وعائشة رضي الله عنهما) أما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم عنه مرفوعاً. من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له، وأما حديث أنس فأخرجه ابن ماجه والطحاوي وغيرهما، وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان وقد تقدم لفظه وفيه: لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا. قوله: (حديث سمرة حديث حسن) قال الحافظ في فتح الباري: لهذا الحديث طرق أشهرها وأقواها رواية الحسن عن سمرة أخرجها أصحاب السنن الثلاثة وابن خزيمة وابن حبان وله علتان: أحدهما أنه من عنعنة الحسن والأخرى أنه اختلف عليه فيه وأخرجه ابن ماجه من حديث أنس والطبراني من حديث عبد الرحمن بن سمر والبزار من حديث أبي سعيد وابن عدي من حديث جابر وكلها ضعيفة انتهى، وقال في التلخيص: قال في الإمام: من يحمل رواية الحسن عن سمرة على الاتصال يصحح هذا الحديث. قال الحافظ: وهو مذهب علي بن المديني كما نقله عنه البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم، وقيل لم يجمع عنه إلا حديث العقيقة وهو قول البزار وغيره، وقيل لم يسمع عنه شيء أصلاً وإنما يحدث من كتابه انتهى. قوله: (والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم اختاروا الغسل يوم الجمعة إلخ) اختلف أهل العلم في الغسل يوم الجمعة فذهب الجمهور إلى أنه مستحب، وقال جماعة إنه واجب. قال الحافظ في شرح حديث غسل الجمعة واجب على كل محتلم ما لفظه. واستدل بقوله واجب على فرضية غسل الجمعة، وقد حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار بن ياسر وغيرهما وهو قول أهلي الظاهر وإحدى الروايتين عن أحمد، وحكاه ابن حزم عن عمر وجمع جم من الصحابة ومن بعدهم، ثم ساق الرواية عنهم لكن ليس فيها عن أحد منهم التصريح بذلك إلا نادراً، وإنما اعتمد في ذلك على أشياء محتملة كقول سعد: ما كنت أظن مسلماً يدع غسل يوم الجمعة انتهى. (فلو علما) أي عمر وعثمان رضي الله عنهما (أن أمره على الوجوب لا على الاختيار لم يترك عمر عثمان حتى يرده ويقول له ارجع فاغتسل ولما خفي على عثمان ذلك ومع علمه إلخ). هذا تقرير الاستدلال وزاد بعضهم في هذا التقرير أن من حضر من الصحابة وافقوهما على ذلك فكان إجماعاً منهم. وأجيب عنه بأن قصة عمر وعثمان هذه تدل على وجوب الغسل يوم الجمعة لا على عدم وجوبه من جهة ترك عمر الخطبة واشتغاله بمعاتبة عثمان وتوبيخ مثله على رؤوس الناس، فلو كان ترك الغسل مباحاً لما فعل عمر ذلك وإنما لم يرجع عثمان للغسل لضيق الوقت إذ لو فعل لفاتته الجمعة: وإنما تركة عثمان لأنه كان ذاهلاً عن الوقت مع أنه يحتمل أن يكون قد اغتسل في أول النهار لما ثبت في صحيح مسلم عن حمران أن عثمان لم يكن يمضي عليه يوم حتى يفضي عليه الماء. وتعقب هذا الجواب بأن عمر رضي الله عنه عاتب عثمان وأنكر عليه ترك السنة المذكورة في هذا الحديث وهي التبكير إلى الجمعة فيكون الغسل كذلك. قلت: قد جاء في هذا الباب أحاديث مختلفة بعضها يدل على أن الغسل يوم الجمعة واجب وبعضها يدل على أنه مستحب، والظاهر عندي أنه سنة مؤكدة، وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث المختلفة والله تعالى أعلم. قوله: (من توضأ فأحسن الوضوء) أي أتى بمكملاته من سننه ومستحباته قاله القاري، وقال النووي: معنى إحسان الوضوء الإتيان به ثلاثاً ثلاثاً وذلك الأعضاء وإطالة الغرة والتحجيل وتقديم الميامن والإتيان بسننه المشهورة انتهى (ثم أتى الجمعة) أي حضر خطبتها وصلاتها (فدنا) أي من الإمام (واستمع وأنصت) قال النووي: هما شيئان متمايزان وقد يجتمعان، فالاستماع الإصغاء، والإنصات السكوت ولهذا قال الله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} انتهى. قلت: الإنصات هو السكوت مع الإصغاء لا السكوت المحض، وقد حققنا ذلك في كتابنا تحقيق الكلام (غفر له ما بينه وبين الجمعة)، وفي رواية مسلم: غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وكذلك في حديث سلمان عند البخاري. قال الحافظ في الفتح: المراد بالأخرى التي مضت بينه الليث عن ابن عجلان في روايته عند ابن خزيمة ولفظه، غفر له ما بينه وبين الجمعة التي قبلها انتهى. قال ميرك: وكما في سنن أبي داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة ولفظه: كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها انتهى. (وزيادة ثلاثة أيام) برفع زيادة عطفاً بالواو بمعنى مع على ما في بينه أي بين يوم الجمعة الذي فعل فيه ما ذكر مع زيادة ثلاثة أيام على السبعة لتكون الحسنة بعشر أمثالها. وجوز الجر في زيادة بالعطف على الجمعة والنصب على المفعول معه. (ومن مس الحصى فقد لغا)، قال النووي: فيه النهي عن مس الحصى وغيره من أنواع العبث في حال الخطبة، وفيه إشارة إلى إقبال القلب والجوارح على الخطبة، والمراد باللغو ههنا الباطل المذموم المردود انتهى. (هذا حديث حسن صحيح)، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.
(باب ما جاء في التبكير إلى الجمعة) قال في النهاية: بكر أتى الصلاة في أول وقتها، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه. 497- حدثنا إسحاقُ بنُ موسى (الأنصاريّ)، حدثنا مَعْنٌ، حدثنا مالكٌ عن سُمَي عنِ أبي صالحٍ عن أبي هريرةَ أَن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسلَ يومَ الُجُمَعةِ غُسْلَ الجنابةِ ثُمّ رَاحَ فكأَنما قَرّبَ بَدَنَةً، ومن راح في الساعةِ الثانيةِ فكأنّما قَرّبَ بَقَرَةً وَمَنْ رَاحَ في السّاعةِ الثالثةِ فكأَنما قَرّبَ كَبْشاً أَقْرَن ومنْ رَاح في الساعةِ الرابعةِ فكأَنْما قَرّبَ دَجَاجةً، ومن راحَ في الساعةِ الخامسةِ فكأَنما قَرّبَ بَيْضةً فإِذا خرج الإمامُ حَضَرَت الملائِكَةُ يستَمعونَ الذّكْرَ". (قال): وفي البابِ عن عبدِ الله بنِ عَمْروٍ وسَمُرَةَ. قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرة حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. قوله: (عن سمي) بضم السين وفتح الميم وشدة الياء هو مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ثقة. قوله: (غسل الجنابة). بالنصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي غسلا كغسل الجنابة، وهو كقوله تعالى: {تمر مر السحاب}، وفي رواية عند عبد الرزاق: فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة، وظاهره أن التشبيه للكيفية لا للحكم وهو قول الأكثر، وقيل فيه إشارة إلى الجماع يوم الجمعة ليغتسل فيه للجنابة، والحكمة فيه أن تسكن نفسه في الرواح إلى الصلاة ولا تمتد عينه إلى شيء يراه، وفيه حمل المرأة أيضاً على الاغتسال ذلك اليوم، وعليه حمل قائل ذلك حديث من غسل واغتسل على رواية من روى غسل بالتشديد. قال النووي: ذهب بعض أصحابنا إلى هذا وهو ضعيف أو باطل والصواب الأول وقد حكاه ابن قدامة عن الإمام أحمد وثبت أيضاً عن جماعة من التابعين. وقال القرطبي إنه أنسب الأقوال فلا وجه لإدعاء بطلانه وإن كان الأول أرجح، ولعله أنه عني باطل في المذهب كذا في فتح الباري. قوله: (ثم راح) زاد أصحاب الموطأ عن مالك في الساعة الأولى. قوله: (فكأنما قرب بدنة): قال الحافظ في فتح الباري: أي تصدق بها متقرباً إلى الله، وقيل المراد أن للباردة في أول ساعة نظير ما لصاحب البدنة من الثواب ممن شرع له القربان لأن القربان لم يشرع لهذه الأمة على الكيفية التي كانت للأمم السالفة، وفي رواية الزهري عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة مثل المهجر كمثل الذي يهدي بدنة، فكأن المراد بالقربان في رواية الباب الإهداء إلى الكعبة. قال الطيبي في لفظ الإهداء إدماج بمعنى التعظيم للجمعة، وأن المبادر إليها كما ساق الهدى إلى الكعبة. والمراد بالبدنة البعير ذكراً كان أو أنثى، والهاء فيها للوحدة لا للتأنيث. وقال الأزهري في شرح ألفاظ المختصر: البدنة لا تكون إلا من الإبل، وصح ذلك عن عطاء، وأما الهدى فمن الإبل والبقر والغنم، وحكى النووي عنه أنه قال: البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم وكأنه خطأ نشأ عن سقط انتهى كلام الحافظ. قوله: (دجاجة). فتح الدال أفصح من كسرها كذا في الصحاح وحكى الضم، قال الكرماني: فإن قلت: القربان إنما هو في النعم لا في الدجاجة والبيضة قلت معنى قرب ههنا تصدق متقرباً إلى الله تعالى بها. وقال العيني: وفيه إطلاق القربان على الدجاجة والبيضة لأن المراد من التقرب التصدق ويجوز التصدق بالدجاجة والبيضة ونحوهما. قوله: (يستمعون الذكر) أي الخطبة قال النووي: مذهب مالك وكثير من أصحابه والقاضي حسين وإمام الحرمين: أن المراد بالساعات هنا لحظات لطيفة بعد زوال الشمس والروح عندهم بعد زوال الشمس وادعوا أن هذا معناه في اللغة، ومذهب الشافعي وجماهير أصحابه وجماهير العلماء استحباب التبكير إليها أول النهار والرواح يكون أول النهار وآخره. قال الأزهري: لغة العرب الرواح الذهاب سواء كان أول النهار أو آخره أو في الليل وهذا هو الصواب الذي يقتضيه الحديث والمعنى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الملائكة تكتب من جاء في الساعة الأولى وهو كالمهدي بدنة، ثم من جاء في الساعة الثانية، ثم الثالثة ثم الرابعة، ثم الخامسة وفي رواية النسائي السادسة فإذا خرج الإمام طووا الصحف ولم يكتبوا بعد ذلك أحداً ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الجمعة متصلا بعد الزوال وهو بعد انفصال السادسة فدل على أنه لا شيء من الهدى والفضيلة لمن جاء بعد الزوال، وكذا ذكر الساعات إنما كان للحث على التبكير إليها والترغيب في فضيلة السبق وتحصيل الصف الأول وانتظارها بالاشتغال بالنفل والذكر ونحوه، وهذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال ولا فضيلة لمن أتى بعد الزوال لأن النداء يكون حينئذ ويحرم التخلف بعد النداء انتهى كلام النووي. قوله: (وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وسمرة) أما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه ابن خزيمة في صحيحه مرفوعاً بلفظ قال تبعث الملائكة على أبواب المساجد يوم الجمعة يكتبون مجيء الناس فإذا خرج الإمام طويت الصحف ورفعت الأقلام فتقول الملائكة بعضهم لبعض: ما حبس فلانا؟ فتقول الملائكة اللهم إن كان ضالاً فاهده، وإن كان مريضاً فإشفه، وإن كان عائلاً فإغنه، وأما حديث سمرة وهو ابن جندب فأخرجه ابن ماجه بإسناد حسن بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب مثل الجمعة ثم التبكير كأجر البقرة كأجر الشاة حتى ذكر الدجاجة وفي الباب أحاديث عديدة ذكرها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب. قوله: (حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح) أخرجه مالك في الموطأ والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
498- حدثنا عليّ بن خَشْرَمٍ، أخبرنا عيسى بن يونسَ عن محمدِ بن عَمْروٍ عن عَبِيْدَةَ بن سفيانَ عن أَبي الَجعْدِ (يعني) الضّمْرِيّ وكانت له صحبةٌ فيما زعم محمدُ بن عَمْروٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَن تركَ الجمعةَ ثلاثَ مراتٍ تهاوُناً بها طَبَع الله على قلْبِهِ". (قال) وفي البابٍ عن ابن عُمَر وابن عباسٍ وسَمُرَةَ. قال أبو عيسى: حديثُ أبي الجعدِ حديثٌ حسنٌ. (قال: و) سأَلت محمّداً عن اسم أبي الجَعْدِ الضّمْرِيّ فلم يَعْرِفْ اسمَهُ. وقال: لا أعرف لَهُ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلاّ هذا الحديثَ. قال أبو عيسى: (و) لا نعرفُ هذا الحديثَ إلاّ مِن حديثِ محمدِ بنِ عَمرو. قوله: (حدثنا علي بن خشرم) بالخاء والشين المعجمتين على وزن جعفر ثقة من صغار العاشرة (عن محمد بن عمرو) بن علقمة بن وقاص الليثي المدني صدوق له أوهام من السادسة (عن عبيدة ابن سفيان) بفتح العين وكسر الموحدة الحضرمي المدني ثقة من الثالثة قوله: (عن أبي الجعد) ذكرها ابن حبان في الثقات ان اسمه "أدرع" وقال أبو أحمد الحاكم في الكني: وأبو عبد الله بن مندة إن اسمه عمرو بن بكر وقيل إن اسمه جنادة ولم يرو عنه إلا عبيدة بن سفيان. كذا في قوت المغتذي وقال: يعني الضمري بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم منسوب إلى ضمرة بن بكر بن عبد مناف قاله في جامع الأصول وكذا في المغنى (وكانت له صحبة فيما زعم محمد بن عمرو) يعني أن أبا الجعد كان صحابياً فيما قال محمد بن عمرو قال الحافظ في التقريب: صحابي حدث قيل قتل يوم الجمل. قوله: (تهاوناً بها) قال العراقي المراد بالتهاون الترك عن غير عذر والمراد بالطبع أنه يصير قلبه قلب منافق انتهى، وقال الطيبي أي إهانة والظاهر هو ما قال العراقي والله تعالى أعلم. قال الشيخ عبد الحق في اللمعات: الظاهر أن المراد بالتهاون التكاسل وعدم الجد في أدائه لا الإهانة والاستخفاف فإنه كفر، والمراد بيان كونه معصية عظيمة. قوله: (طبع الله على قلبه) أي ختم على قلبه بمنع إيصال الخير إليه، وقيل كتبه منافقاً كذا في المرقاة. قوله: (وفي الباب عن ابن عمر) أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه بلفظ: لينتهين أقوام عن ودعهم والجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين (وابن عباس) أخرجه الشافعي والبيهقي بلفظ: من ترك جمعة من غير ضرورة كتب منافقاً في كتاب لا يمحى ولا يبدل (وسمرة) بن جندب أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم بلفظ: من ترك الجمعة من غير عذر فليتصدق بدينار فإن لم يجد فبنصف دينار. وروى أبو يعلى عن ابن عباس من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره، قال الحافظ في التلخيص: رجاله ثقات. قوله: (حديث أبي الجعد حديث حسن) قال الحافظ في التلخيص: وصححه ابن السكن عن هذا الوجه. قال وفي الباب عن جابر بلفظ: من ترك الجمعة ثلاثاً من غير ضرورة طبع على قلبه، رواه النسائي وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم، وقال الدارقطني إنه أصح من حديث أبي الجعد، واختلف في حديث أبي الجعد على أبي سلمة فقيل عنه هكذا وهو الصحيح، وقيل عن أبي هريرة وهو وهم قاله الدارقطني في العلل انتهى. قوله: (إلا هذا الحديث) قال السيوطي: بل له حديثان أحدهما هذا والثاني ما أخرجه الطبراني فذكر بإسناده عن أبي الجعد الضمري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى انتهى. وقال الحافظ في التلخيص: وذكر له البزار حديثاً آخر وقال لا نعلم له إلا هذين الحديثين.
(باب ما جاء من كم يؤتى إلى الجمعة) أي من كم مسافة يؤتى إليها. 499- حدثنا عَبدُ بنُ حُمَيدٍ و محمدُ بن مَدّوَيةَ قالا: حدثنا الفَضْلُ بن دُكَيْنٍ حدثنا إسرائيلُ عن ثُوَيرٍ عن رجلٍ من أهل قُبَاء عن أبيِه وكان مِن أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: أمَرَنَا النبيّ صلى الله عليه وسلم أنْ نَشْهَدَ الجُمْعَة مِن قُبَاء. (وقد رُوي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا ولا يصح). قال أبو عيسى: هذا حديثٌ لا نعرفهُ إلاّ مِن هذا الوجهِ ولا يصحّ في هذا البابِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيء. وقد رُوِيَ عن أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم (أنَه) قال "الجمعةُ على مَن آواهُ الليلُ إِلى أهله". وهذا حديثٌ إسنادُه ضعيفٌ، إنّما يُرْوَى مِن حديثِ مُعَارِكِ بن عَبّادٍ عن عبدِ الله بن سعيدٍ المَقْبُرَيّ. وضعّفَ يحيى بنُ سعيدٍ القَطانُ عبدَ الله بنَ سعيدٍ المَقْبُريّ في الحديثِ. (قال:) واختلفَ أهلُ العلمِ على منَ تَجِبُ الجمعُة، فقالَ بعضُهُمْ: تجبُ الجمعةُ على من آواهُ الليلُ إلى منزِلهِ. وقال بعضُهُم: لا تجبُ الجمعةُ إلاّ على مَن سَمِعَ النداءَ، وهو قولُ الشافعيّ وأحمدَ وإسحاقَ. - سمعتُ أحمدَ بن الحسنِ يقولُ: كنّا عِندَ أحمدَ بنِ حنبلٍ فذكرُوا على مَن تجبُ الجمعةُ، فلم يذكُرْ أحمدُ فيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئاً: قال أحمدُ: فقلتُ لأحمدَ بن حنبلٍ: فيه عن أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: فقال أحمدُ: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم (قال أحمد بن الحسن): حدثنا حجّاجُ بن نُصَيرٍ حدثنا معاركُ بن عَبّادٍ عن عبدِ الله بن سعيدٍ المَقْبُريّ عن أبيه عن أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الجمعةُ على من آواهُ الليلُ إِلى أهلِهِ" (قال:) فَغَضِب عليّ أحمدُ بن حنبل وقال: لي استغفرْ ربّك استَغْفِرْ ربّك. (قال أبو عيسى) إنّما فَعَلَ أَحمدُ بن حنبلٍ هذا لأنه لم يَعُدّ هذا الحديثَ شيئاً وضعّفَهُ لحالِ إسناد. قوله: (ومحمد بن مدوية) بفتح الميم وتشديد الدال المهملة قال في التقريب محمد بن أحمد بن الحسين بن مدوية بميم وتثقيل القرشي صدوق من الحادية عشر، (حدثنا الفضل بن دكين) بضم الدال وفتح الكاف (عن ثوير) مصغراً ابن أبي فاختة سعيد بن علاقة الكوفي أبو الجهم ضعيف رمى بالرفض مقبول من الرابعة كذا في التقريب، وقال الذهبي في الميزان قال الدارقطني: متروك، وروى أبو صفوان الثقفي عن الثوري قال: ثوير ركن من أركان الكذب، وقال خ تركه يحيى وابن مهدي (عن رجل من أهل قباء) هذا الرجل مجهول لا يعرف اسمه (أن نشهد الجمعة من قبا) بضم قاف وخفة موحدة مع مد وقصر موضع بميلين أو ثلاثة من المدينة. قوله: (ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء) أما حديث الباب فهو ضعيف من وجهين لأن في سنده ثوير بن فاختة وهو ضعيف كما عرفت ولأنه يروي عن رجل من أهل قباء وهو مجهول، وروى ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه قال إن أهل قباء كانوا يجمعون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، وفي سنده عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف، وقد ثبت أن أهل العوالي يصلون الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح، وفي التلخيص الحبير روى البيهقي أن أهل ذي الحليفة كانوا يجمعون بالمدينة قال: ولم ينقل أنه أذن لأحد في إقامة الجمعة في شيء من مساجد المدينة ولا في القرى التي بقربها انتهى. قوله: (أواه الليل إلى أهله) في النهاية يقال أويت إلى المنزل وآويت غيري وأويته، وفي الحديث من المتعدي قال المظهر أي الجمعة واجبة على من كان بين وطنه وبين الموضع الذي يصلي فيه الجمعة مسافة يمكنه الرجوع بعد أداء الجمعة إلى وطنه قبل الليل كذا في المرقاة. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث ما لفظه: والمعنى أنها تجب على من يمكنه الرجوع إلى أهله قبل دخول الليل، واستشكل بأنه يلزم منه أنه يجب السعي من أول النهار وهو بخلاف الاَية انتهى. (هذا حديث إسناده ضعيف)، وروى البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: إنما الغسل على من يجب عليه الجمعة والجمعة على من بات أهله قال الحافظ معنى قوله والجمعة على من بات أهله أن الجمعة تجب عنده على من يمكنه الرجوع إلى موضعه قبل دخول الليل فمن كان فوق هذه المسافة لا تجب عليه عنده. قوله: (من حديث معارك بن عباد) في التقريب، معارك بضم أوله وآخره كاف ابن عباد أو ابن عبد الله العبدي بصري ضعيف من السابعة انتهى، وقال الذهبي في الميزان قال البخاري منكر الحديث. قوله: (عن عبد الله بن سعيد المقبري) قال الحافظ في التقريب متروك. قوله: (قال بعضهم تجب الجمعة على من آواه الليل إلى منزله)، وهو قول عبد الله بن عمر وأبي هريرة وأنس والحسن وعطاء ونافع وعكرمة والحكم والأوزاعي قالوا إنها تجب على من يؤويه الليل إلى أهله، واستدلوا بحديث أبي هريرة المذكور قال العراقي إنه غير صحيح فلا حجة فيه كذا في النيل. قوله: (وقال بعضهم لا تجب الجمعة إلا على من سمع النداء)، واستدلوا بما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الجمعة على كل من سمع النداء. قال أبو داود: وروى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصوراً على عبد الله بن عمرو ولم يرفعوه وإنما أسنده قبيصة. قوله: (وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق) وحكاه ابن العربي عن مالك. وروى ذلك عن عبد الله بن عمرو راوي الحديث المذكور في النيل. قلت: ظاهر حديث عبد الله بن عمرو المذكور يدل على عدم وجوب الجمعة على من لم يسمع النداء: سواء كان في البلد الذي تقام فيه الجمعة، أو في خارجه، لكن قال الحافظ في فتح الباري: والذي ذهب إليه الجمهور أنها تجب على من سمع النداء أو كان في قوة السامع سواء كان داخل البلد أو خارجه انتهى، وقد حكى العراقي في شرح الترمذي عن الشافعي ومالك وأحمد ابن حنبل أنهم يوجبون الجمعة على أهل مصر وإن لم يسمعوا النداء انتهى. قوله: (سمعت أحمد بن الحسن) هذا قول الترمذي وأحمد بن الحسن هذا هو أحمد بن الحسن بن جنيدب الترمذي أبو الحسن الحافظ الجوال كان من تلامذة أحمد بن حنبل، روى عنه البخاري والترمذي وابن خزيمة، وكان أحد أوعية الحديث مات سنة062 ستين ومائتين كذا في الخلاصة وغيره. قوله: (حدثنا الحجاج بن نصير) بضم النون الفساطيطي التنيسي أبو محمد البصري ضعيف كان يقبل التلقين من التاسعة كذا في التقريب وقائل حدثنا الحجاج بن نصير هو أحمد بن الحسن لا الترمذي وكذا قائل قوله فغضب علي هو أحمد بن الحسن. قوله: (استغفر ربك) بصيغة الأمر والتكرار للتأكيد أي استغفر ربك يا أحمد بن الحسن من رواية هذا الحديث فإنه ضعيف لأن في سنده ثلاثة ضعفاء الأول الحجاج بن نصير وهو ضعيف، والثاني معارك وهو أيضاً ضعيف، والثالث عبد الله بن سعيد المقبري وهو أيضاً ضعيف. قوله: (وإنما فعل به أحمد إلخ) هذا قول الترمذي.
500- حدثنا أحمدُ بن مَنيعٍ، حدثنا سُرَيْجُ بن النّعمانِ، حدثنا فُلَيْحُ بن سُلَيمانَ عن عثمانَ بنِ عبدِ الرحمَنِ التّيْمِيّ عن أنسِ بن مالكٍ "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي الجمعةَ حين تميلُ الشمْسُ". 501- حدثنا يحيى بنُ موسى حدثنا أَبو داودَ (الطيالسيّ) حدثنا فُلَيْحُ بن سُليمانَ عن عثمانَ بنِ عبدِ الرحمَن (التّيْمِيّ) عن أنسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوَه. (قال:) وفي البابِ عن سَلَمةَ بنِ الأكْوعِ وجابرٍ والزّبَيْرِ (بن العَوّامِ). قال أبو عيسى: حديثُ أُنسٍ حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ. وهو الذي أَجمعَ عليهِ أكثرُ أهلِ العلمِ: أَنّ وقتَ الجمعةِ إذا زالتْ الشمسُ كوَقْتِ الظّهْرِ. وهو قولُ الشافعي وأحمدَ وإسحاقَ. ورأى بعضُهم أن صلاةَ الجمعةِ إذا صُلّيَتْ قبلَ الزّوالِ أنها تجوزُ أيضاً. (و) قال أحمدُ: ومن صَلاّها قبلَ الزوالِ فإنهُ لَمْ يَرَ عليهِ إعادةً. قوله: (أخبرنا سريج) بالتصغير ابن نعمان الجوهري أبو الحسن البغدادي أصله من خراسان ثقة يهم قليلا من كبار العاشرة وعن عثمان بن عبد الرحمن التيمي المدني ثقة. قوله: (حين تميل الشمس) أي إلى المغرب وتزول من استوائها يعني بعد تحقق الزوال، قال الحافظ في فتح الباري: فيه إشعار بمواظبته صلى الله عليه وسلم على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس انتهى. قوله: (وفي الباب عن سلمة بن الأكوع) أخرجه الأئمة الستة خلا الترمذي بلفظ: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به. وفي رواية لمسلم كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء (وجابر) أخرجه مسلم والنسائي بلفظ: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نرجع فنريح نواضحنا، قال حسن يعني ابن عياش فقلت لجعفر في أي ساعة تلك قال: بعد زوال الشمس (والزبير بن العوام) أخرجه أحمد بلفظ: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف فنبتدر في الاَجام فما نجد من الظل إلا قدر موضع أقدامنا قال يزيد بن هارون الاَجام والاَطام. قوله: (حديث أنس حديث حسن صحيح) ورواه البخاري وأبو داود. قوله: (وهو الذي عليه أكثر أهل العلم أن وقت الجمعة إذا أزالت الشمس) واستدلوا بحديث الباب وما في معناه قال النووي: قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم: لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس، ولم يخالف في هذا إلا أحمد بن حنبل وإسحاق فجوزها قبل الزوال وروى في هذا أشياء عن الصحابة لا يصح منها شيء إلا ما عليه الجمهور، وحمل الجمهور هذه الأحاديث على المبالغة في تعجيلها انتهى. قوله: (ورأى بعضهم أن صلاة الجمعة إذا صليت قبل الزوال أنها تجوز أيضاً) أي كما تجوز بعد الزوال واستدلوا بأحاديث منها حديث أنس: كنا نبكر بالجمعة ونقيل بعد الجمعة، أخرجه البخاري قال الحافظ ظاهره أنهم كانوا يصلون الجمعة باكر النهار لكن طريق الجمع أولى من دعوى التعارض، وقد تقرر أن التبكير يطلق على فعل الشيء في أول وقته أو تقديمه على غيره وهو المراد هنا، والمعنى أنهم كانوا يبدأون بالصلاة قبل القيلولة بخلاف ما جرت به عادتهم في صلاة الظهر في الحر فإنهم كانوا يقيلون ثم يصلون لمشروعية الإبراد انتهى. ومنها حديث سهل بن سعد رضي الله عنه: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. رواه الجماعة، ووجه الاستدلال به أن الغداء والقيلولة محلهما قبل الزوال وحكوا عن ابن قتيبة أنه قال: لا يسمى غذاء ولا قائلة بعد الزوال، وأجاب عنه النووي وغيره بأن هذا الحديث وما معناه محمول على المبالغة في تعجيلها وأنهم كانوا يؤجلون الغداء والقيلولة في هذا اليوم إلا ما بعد صلاة الجمعة ندبوا إلى التبكير إليها فلو اشتغلوا بشيء من ذلك قبلها خافوا فوتها أو فوت التبكير إليها. ومنها أثر عبد الله بن سيدان قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، وشهدتها مع عمر رضي الله عنه فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول قد انتصف النهار، وشهدتها مع عمر رضي الله عنه فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول قد انتصف النهار، وأجاب عنه الحافظ بن حجر وغيره بأن عبد الله بن سيدان غير معروف العدالة. قال ابن عدي شبه المجهول، وقال البخاري لا يتابع على حديثه بل عارضه ما هو أقوى منه فروى ابن أبي شيبة من طريق سويد بن غفلة أنه صلى مع أبي بكر وعمر حين زالت الشمس، اسناده قوي، وأستدل بعضهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين" قال فلما سماه عيداً جازت الصلاة فيه في وقت العيد كالفطر والأضحى، وتعقب بأنه لا يلزم من تسمية يوم الجمعة عيداً أن يشتمل على جميع أحكام العيد بدليل أن يوم العيد يحرم صومه مطلقاً سواء صام قبله أو بعده بخلاف يوم الجمعة. والظاهر المعول عليه هو ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس، وأما ما ذهب إليه بعضهم من أنها تجوز قبل الزوال فليس فيه حديث صحيح صريح والله تعالى أعلم.
(باب ما جاء في الخطبة على المنبر) أي مشروعيتها ولم يقيدها بالجمعة ليتناولها ويتناول غيرها. 502- حدثنا أبو حفصٍ عَمْرُو بنُ عليّ الفَلاّسُ (الصيرفي) حدثنا عثمانُ بن عُمَر و يحيى بنُ كَثير أبو غَسانَ العَنْبَرِيّ قالا حدثنا معاذُ بن العَلاءِ عن نافعٍ عن ابن عُمَرَ "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يخطُبُ إلى جِذعٍ، فلما اتَخَذَ (النبي صلى الله عليه وسلم) المنبرَ حَنّ الجِذْعُ حتى أتَاهُ فالْتَزَمَهُ فسَكَنَ". (قال): وفي البابِ عن أنسٍ وجابرٍ وسهلِ بن سعدٍ وأُبيّ بنِ كعبٍ وابن عباسٍ وأمّ سَلَمَةَ. قال أبو عيسى: حديثُ ابن عُمَر حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيحٌ. ومعاذُ بن العَلاءِ هو (بصْريّ وهو) أخو أبي عَمْرِو بن العَلاَءِ. قوله: (حدثنا أبو حفص عمرو بن علي الفلاس) الصيرفي الباهلي البصري ثقة حافظ من العاشرة (أخبرنا عثمان بن عمر) بن فارس العبدي بصري أصله من بخاري ثقة من التاسعة (ويحيى بن كثير أبو غسان العنبري) مولاهم البصري ثقة من التاسعة (حدثنا معاذ بن العلاء) بن عمار المازني أبو غسان البصري صدوق من السابعة (وكان يخطب إلى جذع) أي مستنداً إلى جذع وهو واحد جذوع النخلة. قوله: (حن الجذع) أي صوت مشتاقاً إليه، وأصل الحنين ترجيع الناقة صوتها إثر ولدها. قوله: (وفي الباب عن أنس) أخرجه البخاري في الاعتصام وفي الفتن وفيه خطب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر (وجابر) أخرجه البخاري وفيه قصة اتخاذ المنبر وصياح النخلة (وسهل بن سعد) أخرجه البخاري وفيه قصة عمل المنبر (وأبي بن كعب) أخرجه ابن ماجه ورواه عبد الله من زياداته في المسند وفيه رجل لم يسم وعبد الله بن محمد بن عقيل وفيه كلام وقد وثق (وابن عباس) أخرجه الطبراني في الكبير مرفوعاً بلفظ: كان يخطب يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم الأضحى على المنبر الحديث وفيه حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس وهو ضعيف وبقية رجاله موثقون كذا في مجمع الزوائد (وأم سلمة) أخرجه الطبراني في الكبير مرفوعاً بلفظ: كان يخطب إلى جذع المسجد فلما صنع المنبر حن الجذع إليه فاعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم فسكن، قال في مجمع الزوائد: رجاله موثقون. قوله: (حديث ابن عمر حديث حسن غريب صحيح) أخرجه مطولاً من طريق أبي حباب الكلبي وهو ثقة لكنه مدلس وقد عنعنه كذا في مجمع الزوائد.
503- حدثنا حُمَيدُ بن مَسْعدةَ حدثنا أخبرنا خالدُ بنُ الحارثِ حدثنا عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ عن نافعٍ عن ابن عُمَرَ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَخْطُبُ يومَ الجمعةِ ثم يَجْلِسُ ثم يقومُ فيَخْطُبُ. قال: مثلَ ما تفعلونَ اليومَ". (قال:) وفي البابِ عن ابن عباسٍ وجابرِ بنِ عبدِ الله وجابرِ بن سَمُرةَ. قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عُمَر حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وهو الذي رآهُ أهل العلْمِ أن يَفْصِلَ بين الخطْبَتيْنِ بجلُوِسٍ. قوله: (حدثنا حميد بن مسعدة) بضم الحاء المهملة بصري صدوق من العاشرة. قوله: (كان يخطب يوم الجمعة ثم يجلس ثم يقوم فيخطب) فيه مشروعية الجلوس بين الخطبتين واختلف في وجوبه فقال الشافعي إنه واجب، وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه سنة وليس بواجب كجلسة الاستراحة في الصلاة عند من يقول باستحبابها. وقال ابن عبد البر: ذهب مالك والعراقيون وسائر فقهاء الأمصار إلا الشافعي إلى أن الجلوس بين الخطبتين سنة لا شيء على من تركها كذا في عمدة القاري. واستدل الشافعي على وجوبه لمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك من قوله: صلوا كما رأيتموني أصلي. قال ابن دقيق العيد. يتوقف ذلك على ثبوت أن إقامة الخطبتين داخل تحت كيفية الصلاة وإلا فهو استدلال بمجرد الفعل كذا في فتح الباري: وروى هذا الحديث أبو داود بلفظ يقوم فيخطب ثم يجلس فلا يتكلم ثم يقوم فيخطب وأستفيد من هذا أن حال الجلوس بين الخطبتين لا كلام فيه: قال الحافظ ابن حجر: لكن ليس فيه نفي أن يذكر الله أو يدعوه سراً انتهى. إعلم أنه لم يرد تصريح مقدار الجلوس بين الخطبتين في حديث الباب وما رأيته في حديث غيره. وذكر ابن التين أن مقداره كالجلسة بين السجدتين وعزاه لابن القاسم وجزم الرافعي وغيره أن يكون بقدر سورة الإخلاص. قوله: (وفي الباب عن ابن عباس) أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلى والطبراني من رواية الحجاج بن أرطأة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: كان يخطب قائماً ثم يقعد ثم يقوم ثم يخطب كذا في عمدة القاري (وجابر بن عبد الله) أخرجه البخاري (وجابر بن سمرة) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. قوله: (حديث ابن عمر حديث حسن صحيح) أخرجه أبو داود من طريق النمري عن نافع عن ابن عمر، قال المنذري في إسناده العمري وهو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفيه مقال انتهى. قلت: وفي إسنادي الترمذي عبيد الله بن عمر مصغراً وهو ثقة.
(باب ما جاء في قصر الخطبة) بكسر القاف وفتح الصاد، قال في القاموس القصر كعنب خلاف الطول. 504- حدثنا قُتَيْبةُ وَ هنّادٌ قالا حدثنا أبو الأحوصِ عن سِمَاكِ (بنِ حَرْبٍ) عن جابرِ بن سَمُرةَ قال "كنتُ أصلّي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فكانتْ صلاتُه قَصْداً وخُطبتُه قصْداً". (قال:) وفي البابِ عن عَمّارِ (بن ياسرٍ) وابن أبي أوْفى. قال أبو عيسى: حديثُ جابرِ بن سَمُرةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. قوله: (أخبرنا أبو الأحوص) هو سلام بن سليم الكوفي قال ابن معين ثقة متقن. قوله: (فكانت صلاته قصداً) أي متوسطة بين الإفراط والتفريط من التقصير والتطويل. فإن قلت: حديث جابر هذا ينافي حديث عمار مرفوعاً: إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئتة من فقهه فاطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة، رواه مسلم. قلت: قال القاري في المرقاة: لا تنافي بينهما فإن الأول دل على الاقتصاد فيهما والثاني على اختيار المزية في الثانية منهما انتهى. وقال النووي في شرح مسلم: لا مخالفة لأن المراد بحديث عمار أن الصلاة تكون طويلة بالنسبة إلى الخطبة لا تطويلاً يشق على المأمومين، وهي حنيئذ قصد أي معتدلة والخطبة قصد بالنسبة إلى وضعها انتهى. وقال العراقي في شرح الترمذي: أو حيث احتج إلى التطويل لإدراك بعض من تخلف قال وعلى تقدير تعذر الجمع بين الحديثين يكون الأخذ في حقنا بقوله لأنه أول لا بفعله لاحتمال التخصيص انتهى. قوله: (وخطبته قصداً). فإن قلت: هذا ينافي حديث أبي زيد قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن. رواه مسلم. قلت: لا تنافي بينهما لورود ما في حديث أبي زيد نادراً اقتضاه الوقت ولكونه بياناً للجواز وكأنه كان واعظاً والكلام في الخطب المتعارفة. قاله القاري. قوله: (وفي الباب عن عمار بن ياسر) أخرجه مسلم وتقدم لفظه (وابن أبي أوفى) أخرجه النسائي بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل الصلاة ويقصر الخطبة قال العراقي في شرح الترمذي إسناده صحيح. قوله: (حديث جابر بن سمرة حديث حسن صحيح) أخرجه الجماعة إلا البخاري وأبا داود كذا في المنتقى.
505- حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا سفيانُ بن عُيَيْنَةَ عن عَمْروِ بنِ دينار عن عَطَاءٍ عن صَفوانَ بن يَعْلَى بن أميّةَ عن أبيه قال "سمعتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأُ على المنْبَرِ "وَنادَوُا يا مالِكُ". (قال:) وفي البابِ عن أبي هريرةَ وجَابرِ بن سَمُرةَ. قال أبو عيسى: حديثُ يَعْلَى بن أمَيّةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، وهو حديثُ ابنِ عُيَيْنَةَ. وقد اختارَ قومٌ مِن أهلِ العلمِ أَن يقرأَ الإمامُ في الخطبةِ آياً من القرآنِ. قال الشافِعيّ: وإذا خطبَ الإمامُ فلم يقرأْ في خُطْبتِه شيئاً مِن القرآنِ أَعاد الخطبَةَ. قوله: (يقرأ على المنبر{ونادوا يا مالك}) أي يقول الكفار لمالك خازن النار (يا مالك ليقض علينا ربك) أي بالموت والمعنى سل ربك أن يقضي علينا، يقولون هذا لشدة ما بهم فيجابون بقوله: (إنكم ماكثون)، أي خالدون: واستدل به على مشروعية القراءة في الخطبة وسيجيء ذكر الاختلاف في وجوبها. قوله: (وفي الباب عن أبي هريرة) أخرجه البزار بلفظ: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم جمعة فذكر سورة وله حديث آخر عند ابن عدي في الكامل: خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس على المنبر يقرأ آيات من سورة البقرة (وجابر بن سمرة) أخرجه الجماعة إلا البخاري والترمذي وفيه: ويقرأ آيات ويذكر الناس. قوله: (حديث يعلى بن أمية حديث غريب صحيح) أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. قوله: (آياً من القرآن) بمد الهمزة جمع آية. قوله: (أعاد الخطبة) قال الشوكاني في النيل: ذهب الشافعي إلى وجوب الوعظ وقراءة آية، وذهب الجمهور إلى عدم الوجوب وهو الحق. قال وقد اختلف في محل القراءة على أربعة أقوال. الأول: في إحداهما لا بعينها، وإليه ذهب الشافعي وهو ظاهر إطلاق الأحاديث. والثاني: في الأولى، وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي، واستدلوا بما رواه ابن أبي شيبة عن الشعبي مرسلاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس بوجهه ثم قال السلام عليكم ويحمد الله تعالى ويثنى عليه ويقرأ سورة ثم يجلس ثم يقوم فيخطب ثم ينزل. وكان أبو بكر وعمر يفعلانه. والثالث: أن القراءة مشروعة أيهما جميعاً وإلى ذلك ذهب العراقيون من أصحاب الشافعي. والرابع: في الخطبة الثانية دون الأولى، ويدل له ما رواه النسائي عن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً ثم يجلس ثم يقوم ويقرأ آيات ويذكر الله عز وجل. قال العراقي إسناده صحيح. وأجيب عنه بأن قوله ويقرأ آيات ويذكر الله معطوف على قوله يخطب لا على قوله يقوم. والظاهر من أحاديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يلازم قراءة سورة أو آية مخصوصة في الخطبة بل كان يقرأ مرة هذه السورة ومرة هذه ومرة هذه الاَية ومرة هذه انتهى.
506- حدثنا عبادُ بن يَعْقُوبَ الكوفيّ، حدثنا محمدُ بن الفَضْلِ بنِ عَطِيّةَ عن منصورٍ عن إبراهيمَ عن عَلْقَمَةَ عن عبدِ الله (بن مسعودٍ) قال: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا استْوَىَ على المنْبَرِ اسْتَقْبَلْنَاهُ بوُجُوهِنَا". (قال أبو عيسى): وفي البابِ عن ابن عُمَر. وَحديثُ منصورٍ لا نعرفُهُ إلا مِن حديثِ محمدِ بن الفَضْلِ بن عَطيّةَ. ومحمدُ بنُ الفضْلِ بنِ عَطيّةَ ضعيفٌ ذاهبُ الحديثِ عند أصحابِنَا. والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهم يَسْتَحِبّونَ استقبَالَ الإمامِ إذا خطَبَ. وهو قولُ سفيانَ الثوريّ والشافعيّ وأحمدَ وإِسحاقَ. (قال أبو عيسى): ولا يَصحّ في هذا البابِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيءٌ. قوله: (حدثنا عباد بن يعقوب الكوفي) الرواجني صدوق راضي حديثه في البخاري مقرون بالغ ابن حبان فقال يستحق الترك (أخبرنا محمد بن الفضل بن عطية) الكوفي نزيل بخاري كذبوه من الثامنة مات سنة081 ثماني ومائة كذا في التقريب. قوله: (استقبلناه بوجوهنا) قال ابن الملك أي توجهناه، فالسنة أن يتوجه القوم الخطيب والخطيب القوم انتهى. قال أبو الطيب المدني في شرح الترمذي أي لا بالتحلق حول المنبر لما سبق من المنع عنه يوم الجمعة بل بالتوجه إليه في الصفوف ويؤيده ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في خطبة العيد ولفظه: فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم. وأما حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس يوماً على المنبر وجلسنا حوله، رواه البخاري فيمكن حمله على غير الجمعة والعيد. قوله: (وفي الباب عن ابن عمر) أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في سننه بلفظ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دنا من منبره يوم الجمعة سلم على من عنده فإذا صعده استقبل الناس بوجهه، لفظ البيهقي وضعفه وقال الطبراني: فإذا صعد المنبر توجه إلى الناس وسلم عليهم كذا في عمدة القاري. وفي الباب حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم أخرجه ابن ماجه، وقال ابن ماجه: أرجو أن يكون متصلاً، قال: والد عدي لا صحبة له إلا أن يراد بأبيه جده أبو أبيه فله صحبة على رأي بعض الحفاظ من المتأخرين كذا في النيل. قوله: (ومحمد بن الفضل بن عطية ضعيف ذاهب الحديث) قال الطيبي أي ذاهب حديثه غير حافظ للحديث وهو عطف بيان لقوله ضعيف (عند أصحابنا) أي عند أصحاب الحديث فحديث ابن مسعود المذكور ضعيف وذكره الحافظ في بلوغ المرام وقال: وله شاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة. قوله: (وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق) وهو قول الحنفية قال القاري في المرقاة في شرح المنية: يستحب للقوم أن يستقبلوا الإمام عند الخطبة لكن الرسم الاَن أنهم يستقبلون القبلة للحرج في تسوية الصفوف لكثرة الزحام. قال القاري لا يلزم من استقبالهم الإمام ترك استقبال القبلة على ما يشهد عليه الحديث الاَتي في أول باب العيد فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم. نعم الجمع بينهما متعذر في غير جهة الإمام في المسجد الحرام انتهى ما في المرقاة. قوله: (ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء) قال الحافظ في فتح الباري بعد نقل كلام الترمذي هذا يعني صريحاً وقد استنبط المصنف يعني البخاري من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله استقبال الناس الإمام، ووجه الدلالة منه أن جلوسهم حوله لسماع كلامه يقتضي نظرهم إليه غالباً ولا يعكر على ذلك ما تقدم من القيام في الخطبة لأن هذا محمول على أنه كان يتحدث وهو جالس على مكان عال وهم جلوس أسفل منه، وإذا كان ذلك في غير حال الخطبة كان حال الخطبة أولى لورود الأمر بالاستماع لها والإنصات عندها انتهى كلام الحافظ.
507- حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا حَمّادُ بن زيدٍ عن عَمْروِ بنِ دينارٍ عن جابرِ بن عبدِ الله قال: "بينا النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطُبُ يومَ الجمعةِ إذ جاءَ رجلٌ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أَصَلّيْتَ؟ قال لاَ قال: فقم فاركَعْ". قال أبو عيسى: وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ (أصح شيء في هذا الباب). 508- حدثنا محمدُ بنُ أبي عُمَرَ حدثنا سفيانُ بن عُيَينةَ عن محمدِ بنِ عَجْلانَ عن عِياضِ بن عبدِ الله بن أبي سَرْحٍ" "أن أبا سعيدٍ الخدريّ دخلَ يومَ الجمعةِ ومَروَانُ يخطُبُ فقام يصلّي، فجاءَ الحَرَسُ ليُجْلِسُوهُ فأَبَى حتى صلّى، فلما انصرفَ أتَيناهُ فقلْنا: رحمكَ الله إنْ كادوا ليَقَعُوا بك فقال: ما كنتُ لأتْرُكَهُمَا بعَد شيءٍ رأيتُهُ مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكَرَ أن رجلاً جاءَ يومَ الجمعةِ في هَيْئَةِ بَذّةٍ والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطُبُ يومَ الجمعةِ فأمَرهُ فصلّى ركعَتَيْنِ والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطبُ". قال ابنُ أبي عُمَرَ: كان (سفيان) بنُ عُيَينَة يُصَلّي ركعَتَيْنِ إذ جاءَ والإمامُ يخطبُ وَ (كان) يَأمُرُ به، وكان أبو عبد الرحمَن المقرئ يراهُ. قال (أبو عيسى): وسمعت ابن أبي عمَر يقولُ: قال (سفيان) بن عيينة: كان مُحمدُ بنُ عَجْلانَ ثقةً مأموناً في الحديثِ. (قال:) وفي الباب عن جابرٍ وأبي هريرةَ (وسهلِ بنِ سعدٍ). قال أبو عيسى: حديثُ أبي سعيدٍ الخدريّ حديث حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عندَ بعضِ أهلِ العلمِ. وبه يقولُ الشافعيّ وأحمدُ وإِسحاقُ. وقال بعضهم: إذا دخلَ والإمامُ يخطبُ فإنه يجلسُ ولا يصلّي. وهو قولُ سفيانَ الثوريّ وأهلِ الكوفةِ. والقولُ الأولُ أصحّ. حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا العَلاءُ بنُ خالدٍ القُرَشيّ قال: رأَيتُ الحسنَ البَصْريّ دخلَ المسجدَ يومَ الجمعَةِ والإمامُ يخطبُ فصلّى ركعَتْينِ ثم جلسَ. (إنّما فعلَ الحسنُ اتبّاعاً للحديثِ. وهُوَ رَوَى عن جابرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الحديثَ). قوله: (إذ جاء رجل) هو سليك بمهملة مصغراً الغطفاني (قم فاركع) أي قم فصل وفي بعض النسخ فاركع ركعتين وفي رواية للبخاري قم فصل ركعتين. قوله: (هذا حديث حسن صحيح) أخرجه الجماعة وفي رواية: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما. رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وفي رواية إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين، متفق عليه كذا في المنتقى. قوله: (عن عياض) بكسر العين المهملة وتخفيف التحتانية وآخره معجمة (بن عبد الله بن أبي سرج) بفتح السين المهملة وسكون الراء بعدها مهملة القرشي العامري المكي ثقة من الثالثة مات على رأس المائة. قوله: (ومروان يخطب) جملة حالية، ومروان هذا هو مروان بن الحكم بن أبي العاص أمية أبو عبد الملك الأموي المدني ولي الخلافة في آخر سنة أربع وستين ومات سنة خمس في رمضان وله ثلاث أو إحدى وستون سنة لا يثبت له صحبة من الثانية كذا في التقريب. وقال صاحب المشكاة في ترجمته: ولد مروان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل سنة اثنتين من الهجرة وقيل عام الخندق وقيل غير ذلك، فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفاه إلى الطائف فلم يزل بها حتى ولي عثمان فرده إلى المدينة فقدمها وابنه معه مات بدمشق سنة 65 خمس وستين، روى عن نفر من الصحابة وروى عنه نفر من التابعين منهم عثمان وعلي وعروة بن الزبير وعلي بن الحسين انتهى (فجاء الحرس) بفتح الحاء والراء قال في القاموس: حرسه حرساً وحراسة فهو حارس ج حرس وأحراس وحراس والحرسى واحد حرس السلطان وهم الحراس انتهى. وقال في الصراح: حرس بفتحتين نكاهبان دركاه سلطان حراس ج حرسى يكي ازيشال انتهى (وليجلسوه) من الاجلاس والتجليس (إن كادوا ليقعوا بك) كلمة إن مخففة من الثقيلة أي أن الشأن كادوا ليوقعوا بك بالضرب كما هو الظاهر أو السب كذا في شرح الترمذي لأبي الطيب السندي. قوله: (أن رجلاً جاء) وهو سليك قوله: (في هيأة بذة) بفتح الباء الموحدة وتشديد الذال المعجمة أي سيئة تدل على الفقر، قال في القاموس بذذت كعلمت بذاذة وبذاذاً وبذوذة ساءت حالك، وباذ الهيئة وبذها رثها انتهى فصلى ركعتين والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب قال في منتقى الأخبار: هذا يصرح بضعف ما روى أنه أمسك عن خطبته حتى فرغ من الركعتين انتهى. قلت: أشار صاحب المنتقى إلى حديث أنس أخرجه الدارقطني بلفظ قال: جاء رجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قم فاركع ركعتين، وأمسك عن الخطبة حتى فرغ من صلاته قال الدارقطني: أسنده عبيد بن محمد العبدي عن معتمر عن أبيه عن قتادة عن أنس ووهم فيه والصواب عن معتمر عن أبيه كذلك رواه أحمد بن حنبل وغيره عن معتمر ثم رواه من طريق أحمد مرسلاً. وعبيد بن محمد هذا روى عنه أبو حاتم، وإنما حكم عليه الدارقطني بالوهم لمخالفته من هو أحفظ منه أحمد بن حنبل وغيره (قال ابن أبي عمر) هو محمد بن أبي عمر شيخ الترمذي (وكان أبو عبد الرحمن المقري) اسمه عبد الله بن يزيد المكي أصله من البصرة أو الأهواز ثقة فاضل أقرأ القرآن نيفاً وسبعين سنة من التاسعة وهو من كبار شيوخ البخاري كذا في التقريب (يراه) أي يعتقده ويجوزه (كان محمد بن عجلان ثقة مأموناً) قال في التقريب: محمد بن عجلان المدني صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة: وقال الذهبي في الميزان في ترجمته: وثقه أحمد وابن معين وابن عيينة وأبو حاتم وروى عباس عن ابن معين قال: ابن عجلان أوثق من محمد بن عمرو ما يشك في هذا أحد. وقال الحاكم أخرج له مسلم في كتابه ثلاثة عشر حديثاً كلها شواهد، وقد تكلم المتأخرون من أئمتنا في سوء حفظه وقد بسط الذهبي في ترجمته. قوله: (وفي الباب عن جابر) قال العراقي: إن قيل قد صدر المصنف بحديث جابر فما وجه قوله: وفي الباب عن جابر بعد أن ذكره أولا وما عادته أن يعيد ذكر صحابي في الحديث الذي قدمه على قوله وفي الباب، فالجواب لعله أراد حديثاً آخر لجابر غير الحديث الذي قدمه وهو مارواه الطبراني من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: دخل النعمان بن نوفل ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب يوم الجمعة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "صل ركعتين وتجوز فيهما فإذا أتى أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليصل ركعتين وليخففهما" كذا في قوت المغتذي (وأبي هريرة) أخرجه ابن ماجه (وسهل بن سعد) أخرجه ابن أبي حاتم في العلل بنحو حديث أبي سعيد. وفي الباب أيضاً عن سليك عند أحمد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين خفيفتين، ورواه أيضاً ابن عدي في الكامل. قوله: (حديث أبي سعيد الخدري حديث حسن صحيح) قال في المنتقى: رواه الخمسة إلا أبا داود انتهى. وقال الحافظ في الفتح: ورواه ابن خزيمة وصححه. قوله: (والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق) واستدلوا بأحاديث الباب. قال النووي في شرح مسلم: هذه الأحاديث كلها يعني التي رواها مسلم صريحة في الدلالة لمذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وفقهاء المحدثين أنه إذا دخل الجامع يوم الجمعة والإمام يخطب يستحب له أن يصلي ركعتين تحية المسجد ويكره الجلوس قبل أن يصليهما، وأنه يستحب أن يتجوز فيهما ليسمع بعدهما الخطبة. وحكى هذا المذهب عن الحسن البصري وغيره من المتقدمين وقال بعضهم (إذا دخل والإمام يخطب فإنه يجلس ولا يصلي، وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة) قال النووي: قال القاضي وقال مالك والليث وأبو حنيفة والثوري وجمهور السلف من الصحابة والتابعين لا يصليهما، وهو مروى عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وحجتهم الأمر بالإنصات للإمام، وتألوا أحاديث الباب بأنه كان عرياناً فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام ليراه الناس ويتصدقوا عليه، وهو تأويل باطل يرده صريح قوله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما، وهذا نص لا يتطرق إليه تأويل ولا أظن عالماً يبلغه هذا اللفظ ويعتقده صحيحاً فيخالفه انتهى. وقال الحافظ في الفتح قال جماعة منهم القرطبي: أقوى ما اعتمده المالكية في هذه المسألة عمل أهل المدينة خلفاً عن سلف من لدن الصحابة إلى عهد مالك أن التنفل في حال الخطبة ممنوع مطلقاً. وتعقب بمنع اتفاق أهل المدينة على ذلك، فقد ثبت فعل التحية عن أبي سعيد الخدري وهو من فقهاء الصحابة من أهل المدينة وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة أيضاً، ولم يثبت عن أحد من الصحابة صريحاً ما يخالف ذلك. وأما ما نقله ابن بطال عن عمر عثمان رضي الله عنهما وغير واحد من الصحابة من المنع مطلقاً، فاعتماده في ذلك على روايات عنهم فيها احتمال كقول ثعلبة بن أبي مالك: أدركت عمر وعثمان وكان الإمام إذا خرج تركنا الصلاة. وجه الاحتمال أن يكون ثعلبة عني بذلك من كان داخل المسجد خاصة. قال شيخنا الحافظ أبو الفضل في شرح الترمذي: كل من نقل عنه يعني من الصحابة منع الصلاة والإمام يخطب محمول على من كان داخل المسجد لأنه لم يقع عن أحد منهم التصريح بمنع التحية وقد ورد فيها حديث يخصها فلا تترك بالاحتمال انتهى. ولم أقف على ذلك صريحاً عن أحد من الصحابة. وأما ما رواه الطحاوي عن عبد الله بن صفوان أنه دخل المسجد وابن الزبير يخطب فاستلم الركن ثم سلم عليه ثم جلس ولم يركع وعبد الله ابن صفوان وعبد الله بن الزبير صحابيان صغيران، فقال الطحاوي: لما لم ينكر ابن الزبير على ابن صفوان ولا من حضرهما من الصحابة ترك التحية دل على صحة ما قلناه. وتعقب بأن تركهم النكير لا يدل على تحريمها بل يدل على عدم وجوبها ولم يقل به مخالفوهم انتهى. (والقول الأول أصح) فإنه يدل عليه الأحاديث الصحيحة الصريحة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما، وهذا نص لا يتطرق إليه تأويل. وكل ما أجاب به أهل القول الأول عن أحاديث الباب فهو مخدوش. ومن الأجوبة التي ذكروها أن هذا كان في حالة إباحة الأفعال في الخطبة قبل أن ينهي عنها، قالوا ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم هذا الرجل، فكلامه مع هذا الرجل يدل على أنه قبل أن ينسخ في الخطبة ثم أمر بالإنصات والاستماع وترك الكلام حتى منع من أن يقول لصاحب أنصت. وأجيب عنه بأن سليكاً متأخر الإسلام جداً، فالقول بأن هذا كان قبل أن ينسخ الكلام في الخطبة باطل مردود على قائله: قال الحافظ في الفتح: قيل كانت هذه القصة قبل تحريم الكلام في الصلاة. وتعقب بأن سليكاً متأخر الإسلام جداً، وتحريم الكلام متقدم جداً فكيف يدعى نسخ المتأخر بالمتقدم مع أن النسخ لا يثبت بالاحتمال انتهى. ومنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خاطب سليكاً سكت عن خطبته حتى فرغ سليك من صلاته، فعلى هذا فقد جمع سليك بين سماع الخطبة وصلاة التحية، فليس فيه حجة لمن أجاز التحية والخطيب يخطب. قلت: وأجيب عنه بأن الدارقطني الذي أخرجه من حديث أنس قد ضعفه، وقال الصواب أنه من رواية سليمان التيمي مرسلاً أو معضلاً كذا في فتح الباري وقال العيني في عمدة القاري معترضاً على هذا الجواب ما لفظة: المرسل حجة عندنا، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة: حدثنا هشيم قال أخبرنا أبو معشر عن محمد بن قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمره أن يصلي ركعتين أمسك عن الخطبة حتى فرغ من ركعتيه ثم عاد إلى خطبته انتهى. قلت: الحديث المرسل وإن كان حجة عند الحنفية لكن المحقق أنه ليس بحجة كما تقرر في مقره، فحديث سليمان التيمي المرسل ليس بحجة بل هو ضعيف، ويضعفه أيضاً حديث أبي سعيد الخدري الذي أخرجه الترمذي في هذا الباب بلفظ، فصلى ركعتين والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وهو حديث صحيح، ويضعفه أيضاً حدث جابر رضي الله عنه: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما. رواه أحمد ومسلم وأبو داود، وأما رواية ابن أبي شيبة فهي أيضاً مرسلة ومع إرسالها فيه ضعيفة، قال الدارقطني بعد إخراجها. هذا مرسل لا تقول به الحجة، وأبو معشر اسمه نجيح وهو ضعيف انتهى. قال الحافظ في التقريب: نجيح بن عبد الرحمن السندي أبو معشر مشهور بكنيته ضعيف من السادسة أسن واختلط انتهى. فالحاصل أنه لم يثبت بحديث صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عن الخطبة حين أمره أن يصلي ركعتين، بل ثبت بالحديث الصحيح أنه صلى ركعتين والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب. ومنها أن ذلك كان قبل شروعه صلى الله عليه وسلم في الخطبة، وقد بوب النسائي في سننه الكبرى عن حديث سليك قال: باب الصلاة قبل الخطبة، ثم أخرج عن أبي الزبير عن جابر قال: جاء سليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر فقعد سليك قبل أن يصلي فقال له صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين؟ قال لا، قال قم فاركعهما، كذا في عمد القاري. وأجيب عنه بأن القعود على المنبر لا يختص بالابتداء بل يحتمل أن يكون بين الخطبتين أيضاً فيكون كله بذلك وهو قاعد فلما قام ليصلي قام النبي صلى الله عليه وسلم للخطبة لأن زمن القعود بين الخطبتين لا يطول. ويحتمل أيضاً أن يكون الراوي تجوز في قوله قاعد، لأن الروايات الصحيحة كلها مطبقة على أنه دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب كذا في فتح الباري. وقال العيني في عمدة القاري معترضاً على هذا الجواب ما لفظه: الأصل ابتداء قعوده، وقعوده بين الخطبتين محتمل فلا يحكم به على الأصل انتهى. قلت: لا نسلم أن القعود الأول أصل والثاني محتمل، بل نقول إن القعودين كليهما أصل، وعلى تقدير التسليم فالحكم بالمحتمل على الأصل متعين ههنا لأن الروايات الصحيحة كلها مطبقة على أنه دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، ثم قال العيني معترضاً على قول الحافظ: ويحتمل أن يكون الراوي تجوز إلخ ما لفظه: هذا ترويج لكلامه ونسبة الراوي إلى ارتكاب المجاز مع عدم الحاجة والضرورة انتهى. قلت: نسبة الراوي إلى ارتكاب المجاز ليس بلا حاجة وضرروة بل ذلك لحاجة شديدة وقد بينها الحافظ بقوله لأن الروايات الصحيحة كلها مطبقة على أنه دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب. فالحاصل أن لفظ قاعد في حديث جابر إما يراد به القعود بين الخطبتين أو يقال إن الراوي تجوز فيه، وإلا فهذه الزيادة شاذة مخالفة لسائر الروايات الصحيحة فيه غير مقبولة. ومنها أن هذه الواقعة عين لا عموم لها، فيحتمل اختصاصها بسليك، ويدل عليه قوله في حديث أبي سعيد الذي أخرجه أصحاب السنن وغيرهم: جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب والرجل في هيئة بذة فقال له أصليت؟ قال لا. قال صل ركعتين، وحض الناس على الصدقة الحديث، فأمره أن يصلي ليراه بعض الناس وهو قائم فيتصدق عليه. ويؤيده أن في هذا الحديث عند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن هذا الرجل دخل في المسجد في هيئة بذة فأمرته أن يصلي ركعتين وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه. قلت: هذا مردود، فإن الأصل عدم الخصوصية، والتعليل بكونه صلى الله عليه وسلم قصد التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية. ومما يدل على أن أمره بالصلاة لم ينحصر في قصد التصدق معاودته صلى الله عليه وسلم بأمره بالصلاة أيضاً في الجمعة الثانية بعد أن حصل له في الجمعة الأولى ثوبين فدخل بهما في الثانية فتصدق بأحدهما فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. أخرجه النسائي وابن خزيمة من حديث أبي سعيد أيضاً، ولأحمد وابن حبان أنه كرر أمره بالصلاة ثلاث مرات في ثلاث جمع، فدل على أن قصد التصدق عليه جزء علة لا علة كاملة كذا قال الحافظ في الفتح. والأمر كما قال الحافظ. كيف وقد ثبت في قصة سليك أنه صلى الله عليه وسلم قال بعد قوله فاركعهما وتجوز فيهما: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما كما عرفت فيما تقدم. والحاصل أن ما أجاب أهل القول الأول عن أحاديث الباب فهو مخدوش ليس مما يلتفت إليه وقد بسط الحافظ في التفح الكلام في هذا المقام بسطا حسناً وأجاد فيه.
509- حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا اللّيْثُ عن عُقَيْلٍ عن الزّهْرِيّ عن سعيدِ بن المُسيّبِ عن أبي هريرةَ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال "مَن قالَ يومَ الجمعةِ والإمامُ يخطبُ أَنْصِتْ فقد لَغَا". (قال:) وفي البابِ عن ابنِ أَبي أوفى وجابرِ بنِ عبدِ الله. قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ عليه عندَ أهلِ العلمِ: كَرِهُوا للرجُلِ أن يتكلّمَ والإمامُ يَخْطُبُ وقالوا إنْ تكلّم غيرُهُ فلا يُنْكِرْ عليهِ إلاّ بالإشارَةِ. واختلفوا في رَدّ السّلامِ وتَشْمِيتِ العاطِسِ (والإمام يخطب) فرخّصَ بعضُ أهلِ العلمِ في رَدّ السلاِم وتشْميتِ العاطِس والإمامُ يخطُبُ. وهو قولُ أحمدَ وإسحاقَ. وكَرِهَ بعضُ أهلِ العلمِ مِن التابعينَ وغيرِهم ذلك. وهو قولُ الشافعيّ. قوله: (والإمام يخطب) جملة حالية (أنصت) بصيغة الأمر من الإنصات مقول القول (فقد لغا) وفي رواية الشيخين: إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت. قال الحافظ في الفتح: قال الأخفش: اللغو الكلام الذي لا أصل له من الباطل وشبهه. قال ابن عرفة: اللغو السقط من القول، وقيل الميل من الصواب، وقيل اللغو الاَثم كقوله تعالى {وإذا مروا باللغو مروا كراماً} وقال الزين بن المنير: اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو ما لا يحسن من الكلام. وقال النضر بن شميل: معنى لغوت خبتِ من الأجر، وقيل بطلت فضيلة جمعتك، وقيل صارت جمعتك ظهراً. قال الحافظ: أقوال أهل اللغة متقاربة المعنى، ويشهد للقول الأخير ما رواه أبو داود وابن خزيمة من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً: ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً. قال ابن وهب أحد رواته: أجزأت عنه الصلاة وحرم فضيلة الجمعة. ولأحمد من حديث علي مرفوعاً: من قال صه فقد تكلم ومن تكلم فلا جمعة له. ولأبي داود نحوه ولأحمد والبزار من حديث ابن عباس مرفوعاً: من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفاراً والذي يقول له أنصت ليست له جمعة، وله شاهد قوي في جامع حماد بن سلمة عن ابن عمر موقوفاً قال العلماء معناه لا جمعة له كاملة للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه انتهى. وقال في بلوغ المرام بعد ذكر حديث ابن عباس مرفوعاً من تكلم يوم الجمعة الخ. رواه أحمد بإسناد لا بأس به وهو يفسر حديث أبي هريرة يعني حديث الباب. قوله: (وفي الباب عن ابن أبي أوفى) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف قال: ثلاث من سلم منهن غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى من أن يحدث حدثا يعني أذى أو أن يتكلم أو أن يقول صه. قال العراقي ورجاله ثقات، قال وهذا وإن كان موقوفاً فمثله لا يقال من قبل الرأي فحكمه حكم الرفع (وجابر ابن عبد الله) أخرجه أبو يعلي والطبراني قال العراقي رجاله ثقات. وفي الباب أيضاً عن ابن عباس وأبي ذر وأبي الدرداء وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم. قوله: (حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح) أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه كذا في المنتقى. قوله: (فرخص بعض أهل العلم في رد السلام وتشميت العاطس وهو قول أحمد وإسحاق) وقال العيني في شرح البخاري: وعن أبي حنيفة إذا سلم عليه يرده بقلبه، وعن أبي يوسف يرد السلام ويشمت العاطس فيها، وعن محمد يرد ويشمت بعد الخطبة ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في قلبه انتهى. قوله: (وكره بعض أهل العلم من التابعين وغيرهم ذلك وهو قول الشافعي) وحكى ابن العربي عن الشافعي موافقة أحمد وإسحاق. قال العراقي وهو أولى مما نقله عنه الترمذي، وقد صرح الشافعي في مختصر البويطي بالجواز فقال: ولو عطس رجل يوم الجمعة فشمته رجل رجوت أن يسعه لأن التشميت سنة، ولو سلم رجل على رجل كرهت ذلك له ورأيت أن يرد عليه لأن السلام سنة ورده فرض هذا لفظه، وقال النووي في شرح المهذب إنه الأصح كذا في النيل. وقد كره الحنفية أيضاً رد السلام وتشميت العاطس. وقال الشيخ عبد الحق في اللمعات كره تشميت العاطس ورد السلام، وعن أبي يوسف: لا يكره لأنهما فرض. والجواب أنهما فرضان في كل وقت إلا عند سماع الخطبة لعدم الإذن فيهما، وكذا الحمد للعطسة، وفي رد المنكر بالإشارة بالعين واليد لا يكره، وهو الصحيح انتهى. وقال العيني في شرح البخاري، وقال أصحابنا إذا اشتغل الإمام بالخطبة ينبغي للمستمع أن يجتنب ما يجتنبه في الصلاة لقوله تعالى {فاستمعوا له وأنصتوا} وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك أنصت" الحديث. فإذا كان كذلك يكره له رد السلام وتشميت العاطس انتهى. وقد حكى العيني عن أبي حنيفة إذا سلم عليه يرده بقلبه كما تقدم. قلت: وجه الاختلاف أن ههنا عمومات متعارضة، فالنهي عن التكلم في حال الخطبة يعم كل كلام وكذا الأمر بالإنصات يعم السكوت عن كل كلام، والأمر برد السلام وتشميت العاطس يعم جميع الأوقات، وكذا الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره يعم جميع الأوقات، فأبقى بعض أهل العلم الأول وخصص الثاني، وخصص بعضهم الأول وأبقي الثاني على عمومه. والأولى عندي في الجمع بين هذه العمومات المتعارضة أن يقال: المراد بالنهي عن التكلم في حال الخطبة النهي عن مكالمة الناس، وكذا المراد بالإنصات السكوت عن مكالمة الناس دون ذكر الله كما اختاره ابن خزيمة، فإذا سكت في حال الخطبة عن مكالمة الناس ورد السلام سراً في نفسه أو شمت العاطس سراً أو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره يكون عاملاً بكل ما ذكر من النهي والأمر، وهذا كما قال الحنفية بجواز الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سراً في نفسه في حال الخطبة عند قراءة الخطيب قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} قال العيني في البناية: فإن قلت توجه عليه أمران أحدهما صلوا عليه وسلموا، والأمر الاَخر قوله تعالى {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} قال مجاهد نزلت في الخطبة والإشتغال بأحدهما يفوت الاَخر قلت إذا صلى في نفسه وأنصت وسكت يكون آتياً بموجب الأمرين انتهى. هذا ما عندي والله تعالى أعلم. وقال الفاضل اللكنوي في عمدة الرعاية: والحق أنه لا مانع من جواز كل ما منعوه حالة سكتات الخطيب إذا لم يخل بالاستماع.
(باب في كراهية التخطي يوم الجمعة) قال في الصراح: تخطيت رقاب الناس أي تجاوزتها. 510- حدثنا أبوُ كُرَيْبٍ، حدثنا رِشْدِينُ بن سعدٍ عن زَبّانَ بن فائِدٍ عن سهلِ بن مُعَاذِ بن أنس الجُهَنِيّ عن أبيه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَن تَخَطّى رِقَابَ الناسِ يومَ الجمعةِ اتّخِذَ جسْراً إلى جهنّم". (قال): وفي البابِ عن جابرٍ. قال أبو عيسى: حديثُ سَهْلِ بن مُعاذِ بن أنسٍ الجُهَنِيّ حديثٌ غريبٌ لا نعرِفهُ إلاّ مِن حديثِ رِشْدِين بنِ سعدٍ والعملُ عليهِ عندَ أهلِ العلمِ: كَرِهُوا أن يتخطّى الرجل رقاب الناس يومَ الجُمعةِ وشَدّدُوا في ذلك. وقد تكلّم بعضُ أهلِ العلمِ في رِشْدِين بن سَعْدٍ وضَعّفَهُ مِن قِبَلِ حفظِهِ. قوله: (عن زبان) بفتح الزاي وشدة الموحدة (ابن فائد) بالفاء أبي جوين المصري ضعيف الحديث مع صلاحه وعبادته (عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني) لا بأس به إلا في رواية زبان عنه كذا في التقريب. وقال في الميزان ضعفه ابن معين، وقال ابن حبان في الثقات لست أدري أوقع التخليط منه أو من صاحبه زبان بن فائد انتهى (عن أبيه) أي معاذ بن أنس الجهني وهو صحابي نزل مصر وبقي إلى خلافة عبد الملك. قوله: (من تخطى) أي تجاوز (رقاب الناس) قال القاضي أي بالخطو عليها (يوم الجمعة) ظاهر التقييد بيوم الجمعة أن الكراهة مختصة به، ويحتمل أنه يكون التقييد خرج مخرج الغالب لاختصاص الجمعة بكثرة الناس بخلاف سائر الصلوات فلا يختص ذلك بالجمعة بل يكون سائر الصلوات حكمها. ويؤيد ذلك التعليل بالأذية وظاهر هذا التعليل أن ذلك يجري في مجالس العلم وغيرها، ويؤيد أيضاً ما أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تخطى حلق قوم بغير إذنهم فهو عاص، ولكن في إسناده جعفر بن الزبير وقد كذبه شعبة وتركه الناس (اتخذ جسراً إلى جهنم)، قال العراقي المشهرر في رواية هذا الحديث اتخذ على بنائه للمفعول بضم التاء المشددة وكسر الخاء المعجمة بمعنى أنه يجعل جسراً على طريق جهنم ليوطأ ويتخطى كما تخطى رقاب الناس فإن الجزاء من جنس العمل، ويجوز أن يكون للبناء للفاعل أي أنه اتخذ لنفسه جسراً يمشي عليه إلى جهنم بسبب ذلك، كقوله عليه السلام: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، وفيه بعد، والأول أظهر وأوفق للرواية. وقد ذكره صاحب مسند الفردوس بلفظ: من تخطى رقبة أخيه المسلم جعله الله يوم القيامة جسراً على باب جهنم للناس، كذا في قوت المغتذي. وقال الطيبي والتوربشتي: ضعف المبني للمفعول رواية ودراية انتهى. قلت في كلام الطيبي والتوربشتي خلاف ما قال العراقي، والظاهر الراجح عندي هو قول العراقي ويؤيده لفظ مسند الفردوس: جعله الله يوم القيامة جسراً والله تعالى أعلم. قوله: (وفي الباب عن جابر)، أخرجه ابن ماجه بلفظ أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجعل يتخطى رقاب الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إجلس فقد آذيت وآنيت"، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف. وفي الباب أيضاً عن عبد الله بن بسر بمعنى حديث جابر أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد وسكت عنه أبو داود والمنذري وصححه ابن خزيمة وغيره، وعن أرقم بن الأرقم المخزومي مرفوعاً بلفظ: الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبه في النار. أخرجه أحمد والطبراني في الكبير وفي إسناده هشام بن زياد ضعفه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم، وفي الباب أيضاً عن أبي الدرداء عند الطبراني في الأوسط، وعن أنس عنده في الصغير والأوسط، وعن عثمان بن الأزرق عنده في الكبير، وذكر الشوكاني ألفاظ أحاديثهم في النيل مع الكلام عليها. قوله: (حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني حديث غريب الخ) في إسناده رشدين بن سعد قال في التقريب ضعيف رجح أبو حاتم علية بن علية، وقال ابن يونس كان صالحاً في دينه فأدركته غفلة الصالحين فخلط في الحديث من الخامسة، وقال الذهبي في الميزان كان صالحاً عابداً سيء الحفظ غير معتمد انتهى، فحديث الباب ضعيف لكنه معتضد بأحاديث أخرى وقد ذكرنا بعضها، (والعمل عليه عند أهل العلم كرهوا أن يتخطى الرجل يوم الجمعة رقاب الناس وشددوا في ذلك) حكى أبو حامد في تعليقه عن الشافعي التصريح بالتحريم، وقال النووي في زوائد الروضة: إن المختار تحريمه للأحاديث الصحيحة، واقتصر أصحاب أحمد على الكراهة فقط، وروى العراقي عن كعب الأحبار أنه قال: لأن أدع الجمعة أحب إليّ من أن أتخطى الرقاب، وقال المسيب: لأن أصلي الجمعة بالحرة أحب إليّ من التخطي، وروى عن أبي هريرة نحوه ولا يصح عنه لأنه من رواية صالح مولى التوأمة عنه، قال العراقي: وقد استثنى من التحريم أو الكراهة الإمام أو من كان بين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي. وهكذا أطلق النووي بالروضة، وقيد ذلك في شرح المهذب فقال: إذا لم يجد طريقاً إلى المنبر أو المحراب إلا بالتخطي لم يكره لأنه ضرورة، وروى نحو ذلك عن الشافعي، وحديث عقبة بن الحارث قال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه الحديث يدل على جواز التخطي للحاجة في غير الجمعة، فمن خصص الكراهة بصلاة الجمعة فلا معارضة بينه وبين أحاديث الباب عنده، ومن عمم الكراهة لوجود العلة المذكورة سابقاً في الجمعة وغيرها فهو محتاج إلى الاعتذار عنه، وقد خص الكراهة بعضهم بغير من يتبرك الناس بمروره ويسرهم ذلك ولا يتأذون لزوال علة الكراهة التي هي التأذي كذا في النيل.
|